فصل: الفصل السادس من الباب الثالث من المقالة الثانية في المملكة الحجازية:

صباحاً 3 :40
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل السادس من الباب الثالث من المقالة الثانية في المملكة الحجازية:

وفيه ثمانية أطراف:

.الطرف الأول في فضل الحجاز وخواصه وعجائبه:

أما فضله ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز».
قلت: وفي ذلك دليل صريح لفضل الحجاز نفسه، وذلك أن هواء كل بلد يؤثر في أهله بحسب ما يقتضيه الهواء، ولذلك تجد لأهل كل بلد صفاتٍ وأحوالاً تخصهم، وقد اخبر صلى الله عليه وسلم عن أهل الحجاز بالرقة كما أخبر عن أهل المشرق بالغلظة والجفاء؛ وناهيك بفضل الحجاز وشرفه أن به مهبط الوحي ومنبع الرسالة، وبه مكة والمدينة اللتين هما أشرف بلاد الله تعالى وأجل بقاع الأرض، ولكل منهما فضل يخصه يأتي الكلام عليه عند ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما خواصه فيختص من جهة الشرع بأمرين: أحدهما انه لا يستوطنه مشرك من ذمي ولا معاهد، وإن دخله لم يمكن من الإقامة في موضع منه أكثر من ثلاثة أيام ثم يصرف إلى غيره، فإن أقام بموضع أكثر من ثلاثة أيام، عزز إن لم يكن له عذر. قال أصحابنا الشافعية: ولو عقد الإمام عقداً لكافر على الإقامة بالحجاز على مسمىً بطل العقد ووجب المسمى.
الثاني أنه لا تدفن فيه موتاهم وإن دفن أحد منهم فيه نقل إلى غيره.
وأما عجائبه فمنها مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحجر الذي كان يقوم عليه لبناء البيت فأثرت فيه قدماه وصار أثرهما فيه ظاهراً كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: {فيه آياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم} وهو باق على ذلك أمام البيت من جهة الباب إلى الآن.
ومنها ما ذكره في الروض المعطار من أن أثر قدم إسماعيل عليه السلام بمسجدٍ بمنى في حجر فيه أثر عقبه حين رفس إبليس برجله عند اعتراضه له في ذهابه مع أبيه للذبح.
ومنها حصى الجمار، وهو أنه في كل سنة يرمي الحجاج عند الجمرات الثلاث في أيام منى ما تتحصل منه التلال العظيمة على طول المدى، ومع ذلك لم يكن موجوداً بمنى منها إلا الشيء القليل على تطأول السنين، يقال إن مهما تقبل منها رفع والباقي منها ما لم يتقبل.

.الطرف الثاني في ذكر حدوده:

أما حدوده فاعلم أن الحجاز عبارة عن مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها على خلاف في بعض ذلك، يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، وهو بجملته قطعةٌ من جزيرة العرب، وهو ما بين بحر القلزم وبحر الهند وبحر فارس والفرات وبعض بادية الشام.
قال المدائني: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، ونجدٌ، والحجاز، والعروض، واليمن. وزاد ابن حوقل في أقسامها بادية العراق وبادية الجزيرة فيما بين دجلة والفرات وبادية الشام، وفيها خلاف يطول ذكره.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: وسميت جزيرة العرب جزيرةً لانجزار الماء عنها حيث لم يمد عليها وإن كان مطيفاً بها. والحجاز عندهم عبارة عن جبل السراة- بالسين والراء المهملتين- على ما أورده في الروض المعطار؛ وضبط في تقويم البلدان في الكلام على البلقاء من الشام بالشين المعجمة، وهو جبل يقبل من اليمن حتى يتصل ببادية الشام، وهو أعظم جبال العرب. وحده من الجنوب تهامة: وهي ما بينه وبين بحر الهند في غربي بلاد اليمن؛ وحده من الشرق بلاد اليمن وهي بينه وبين فارس؛ وحده من الشمال نجدٌ، وهو ما بينه وبين العراق؛ وحده من الغرب بحر القلزم وما في جنوبيه من بادية الشام.

.الطرف الثالث في ابتداء عمارته وتسميته حجازاً:

أما ابتداء عمارته فإنه لنا انبث أولاد سام بن نوح عليه السلام وهم العرب في أقطار هذه الجزيرة حين قسم نوح الأرض بين بنيه، نزل الحجاز منهم من العرب البادية طسمٌ وجديس ومنزلهم اليمامة ومنزلة جرهم على القرب من مكة فكان ذلك أول عمارة الحجاز بعد الطوفان؛ ثم بادت هذه العرب وهلكوا عن آخرهم، ودرست أخبارهم وانقطعت آثارهم. وعمر الحجاز بعدهم جرهم الثانية، وهم بنو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. ولما اسكن إبراهيم الخليل عليه السلام ولده إسماعيل بمكة كما أخبر تعالى عنه بقواه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ} كانت جرهم الثانية نازلين بالقرب من مكة فاتصلوا بإسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم وكثر ولده وتناسلوا فعمروا الحجاز إلى الآن.
وأما تسميته حجازاً، فقال الأصمعي: سمي بذلك لأنه حجز بين نجدٍ وتهامة ولامتداده بينهما على ما تقدم. قال ابن الكلبي: سمي بذلك لما احتجز به من الجبال. قلت: ووهم في الروض المعطار فقال: سمي حجازاً لأنه حجز بين الغور والشام، وقيل لأنه حجز بين نجدٍ والسراة، وما أعلم ما الذي أوقعه في ذلك.

.الطرف الرابع في ذكر مياهه وعيونه وجباله المشهورة:

أما مياهه وعيونه، فقال المتكلمون في المسالك والممالك: ليس بالحجاز بل بجزيرة العرب جملةً نهرٌ يجري فيه مركب، وإنما فيه العيون الكثيرة المتفجرة من الجبال المعتضدة بالسيول والأمطار، الممتدة من وادٍ إلى وادٍ، وعليها قراهم وحدائقهم وبساتينهم مما لا يحصى ذلك كثرةً، كما في الطائف وبطن مر، وبطن نخل، وعسفان وبدرٍ وغير ذلك.
وأما جباله المشهورة، فاعلم أن جميع ارض الحجاز جبال وأوديةٌ ليس فيها بسيط من الأرض، وجباله أكثر من أن تدخل تحت العد أو يأخذها الحصر، وقد ذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن لمكة اثني عشر ألف جبل لكل جبل منها اسم يخصه ولكن قد شهرت جبال مكة والمدينة والينبع.
فمن جبال مكة المشهورة جبل أبي قبيس وهو الجبل الذي في جنوبي مكة ممتداً على شرقيها. قال الأزرقي: وهو أول جبل وضع بالأرض ولذلك كان اقرب الجبال إلى البيت.
ومنها جبل قينقاع- بقاف مفتوحة وياء مثناة تحت ساكنة ونون مضمومة وقاف ثانية مفتوحة بعدها ألف وعين مهملة- وهو الجبل الذي غربي مكة، سمي بذلك لمكان سلاح تبعٍ منه، والقعقعة صوت السلاح، كما سمي جياد جياداً لمكان خيله منها.
ومنها جبل حراءٍ- بحاء مهملة مكسورة وراء مهملة مفتوحة بعدها ألف- وهو جبل يشرف على مكة من شرقيها يرى البيت من أعلاه، وفيه الغار الذي كان يتعبد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه جاءه جبريل عليه السلام في أول النبوة.
سومنها جبل ثورٍ- بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو وراء مهملة في الآخر- وهو جبل مشرف على مكة من جنوبيها، وفيه الغار الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سومنها جبل تبيرٍ- بفتح التاء المثناة فوق وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة تحت وراء مهملة في الآخر- وهو جبل مشرف يرى من منى والمزدلفة.

.الطرف الخامس في زروعه وفواكهه ورياحينه ومواشيه ووحوشه وطيوره:

أما زروعه ففيه من الحبوب المزدرعة البر والشعير والذرة والسلت، وجميعها تزرع على المطر، وربما زرع بعضها على ماء العيون، والشعير والذرة اكثر الحبوب وجوداً، ويزرع فيه على العيون البطيخ: الأخضر والأصفر، والقثاء، والباذنجان، والدباء، والملوخيا، والهندبا، والفجل، والكراث، والبصل، والثوم.
وأما فواكهه ففيه الرطب، والعنب، والموز والتفاح، والسفرجل، والليمون وغير ذلك.
وأما رياحينه ففيه التامرحناء، ويسمى عندهم الفاغية: بالفاء وغين معجمة وياء مثناة تحت وهاء في الآخر.
وأما مواشيه ففيه الإبل والضأن، والمعز بكثرة، والبقر بقلة. وبه من الخيل ما يفوق الوصف حسنه، ويعجز البرق إدراكه.
وأما وحوشه ففيه الغزلان، وحمر الوحش، والذئاب، والضباع، والثعالب، والأرانب وغيرها.
وأما طيوره ففيه الحمام، والدجاج، والحدأة، والرخم.

.الطرف السادس في قواعده وأعماله:

وفيه ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: مكة المشرفة:
وفيها جملتان:
الجملة الأولى في حاضرتها:
وقد ذكر العلماء رحمهم الله لها ستة عشرة اسماً. مكة بفتح الميم وتشديد الكاف المفتوحة وهاء في الآخر. كما نطق به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديهم عنهم ببطن مكة}؛ سميت بذلك لقلة مائها أخذاً من قولهم امتك الفصيل ضرع أمه إذا امتصه، وقيل لأنها تمك الذنوب بمعنى أنها تذهب بها، ويقال لها أيضاً بكة بإبدال الميم باء موحدة. وبه نطق القرآن أيضاً في قوله تعالى: {إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة} قال الليث: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها والبك الدق؛ وقيل بالميم الحرم كله وبكة المسجد خاصة، حكاه الماوردي عن الزهري وزيد بن أسلم؛ وقيل بالباء اسم لموضع الطواف، سمي بذلك لازدحام الناس فيه والبك الازدحام. ومن أسمائها أيضاً أم القرى والبلد الأمين وأم رحم بضم الراء وإسكان الحاء المهملتين لأن الناس يتراحمون فيها ويتوادعون؛ وصلاح مبني على الكسر كقطام ونحوه؛ والباسة لأنها تبس الظالم أي تحطمه؛ والناسة بالنون لأنها تنس الملحد فيها أي تطرده؛ والنسناسة لذلك أيضاً؛ والحاطمة لأنها تحطم الظالم كما تقدم؛ والرأس وكوثى بضم الكاف وفتح المثلثة؛ والقدس والقادس والمقدسة. قال النوري: وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولذلك كثرت أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أنها من جملة الحجاز. وحكى ابن حوقل عن بعض العلماء أنها من تهامة ورجحه في تقويم البلدان. وموقعها في الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة. قال في كتاب الأطوال: طولها سبع وستون درجة وثلاث عشرة دقيقة، وعرضها إحدى وعشرون درجة وأربعون دقيقة. وقال في القانون: طولها سبع وستون درجة فقط، وعرضها إحدى وعشرون درجة وعشرون دقيقة. وقال في رسم المعمور: طولها سبع وستون درجة، وعرضها إحدى وعشرون. وقال كوشيار: طولها سبع وستون درجة وعشر دقائق، وعرضها إحدى وعشرون درجة وأربعون دقيقة. وقال ابن سعيد: طولها سبع وستون درجة وإحدى وثلاثون دقيقة، وعرضها إحدى وعشرون درجة وعشرون دقيقة. وهي مدينة في بطن وادٍ والجبال محتفة بها، فأبو قبيسٍ مشرف عليها من شرقيها وأجيادٌ بفتح الهمزة مشرفٌ عليها من غربيها. قال الجواهري: سمي بذلك لموضع خيل تبع منه. قال في الروض المعطار: وسعتها من الشمال إلى الجنوب نحو ميلين، ومن أسفل أجيادٍ إلى ظهر جبل قعيقعان مثل ذلك. قال الكلبي: ولم يكن بها منازل مبنية في بدء الأمر؛ وكانت جرهم والعمالقة حين ولايتهم على الحرم ينتجعون جبالها وأوديتها ينزلون بها؛ ثم جاءت قريش بعدهم فمشوا على ذلك إلى أن صارت الرياسة في قريش لقصي بن كلاب فبنى دار الندوة، يحكم فيها بين قريش؛ ثم صارت لمشاورتهم وعقد الألوية في حروبهم؛ ثم تتابع الناس في البناء، فبنوا دوراً وسكنوها، وتزايد البناء فيها حتى صارت إلى ما صارت. وبناؤها بالحجر وعليها سورٌ قديم قد هدم أكثره وبقي أثره والمسجد في وسطها. وقد ذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن الكعبة كانت قبل أن تدحى الأرض رابيةً حمراء مشرفة على وجه الماء، ولما اهبط الله آدم عليه السلام وجاء إلى مكة، استوحش فانزل الله تعالى غليه قبةً من الجنة من درة بيضاء لها بابان فوضعت مكان البيت فكان يتأنس بها، وجعل حولها ملائكة يحفظونها من أن يقع بصر الشياطين عليها. قال في الروض المعطار: وكان الحجر الأسود كرسياً يجلس عليه. قال: وطوله ذراع. والذي ذكره الماوردي وغيره أن الملائكة لما قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} لاذوا بالعرش خوفاً من غضب الله تعالى فطافوا حوله سبعاً فرضي عنهم وقال: ابنوا في الأرض بيتاً يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم فبنوا هذا البيت، وهو أول بنائه؛ ثم بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبر الله تعالى بقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} قال في الروض المعطار: ولم يجعل لها سقفاً. قال: ثم انهدمت الكعبة فبنتها العمالقة، ثم انهدمت فبناها قصي بن كلاب وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل وجعل ارتفاعها خمساً وعشرين ذراعاً، ثم استهدمت وكانت فوق القامة فأرادت قريشٌ تعليتها فهدمتها وبنتها، والنبي صلى الله عليه وسلم عمره خمس وعشرون سنة، وشهد بناءها معهم، وكان بابها بالأرض فقال أبو حذيفة بن المغيرة: يا قوم ارفعوا باب الكعبة حتى لا يدخل إلا مسلم ففعلوا ذلك وسقفوها بخشب سفينة ألقاها البحر إلى جدة. وها بخشب سفينة ألقاها البحر إلى جدة.
قال في الروض المعطار: وكان طولها ثماني عشرة ذراعاً، ثم احترق البيت حين حوصر ابن الزبير بمكة وتأثرت حجارته بالنار، فهدمه ابن الزبير وأدخل فيه ستة اذرع من الحجر، وقيل سبعة، وجعل له بابين ملصقين بالأرض: شرقياً وغربياً يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وجعل على بابها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحه من ذهب. قال في الروض المعطار: وبلغ بها في العلو سبعاً وعشرين ذراعاً. فلما قتل ابن الزبير كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره بإعادته على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من بناء قريش فهدم جانب الحجر وأعاده إلى ذلك، وسد الباب الغربي ورفع الشرقي عن الأرض إلى حده الذي هو عليه الآن؛ وكان عبد الملك بن مروان بعد ذلك يقول: وددت أني كنت حملت ابن الزبير من بناء الكعبة ما تحمل.
ثم جدد المتوكل رخام الكعبة فأزرها بفضة وألبس سائر حيطانها وسقفها الذهب، وهو على ذلك إلى الآن. وهو مبني بالحجر الأسود مستطيل البناء على التربيع، في ارتفاع خمسة وعشرين ذراعاً.
وله أربعة أركان: الأول ركن الحجر الأسود. وهو ما بين الشرق والجنوب، ومنه يبتدأ الطواف.
الثاني الشامي. وهو ما بين الشرق والشمال، سمي بذلك لمسامتته بعض بلاد الشام، وداخله باب المطلع إلى سطح الكعبة.
الثالث الغربي. وهو ما بين الشمال والغرب، سمي بذلك لمسامتته بلاد المغرب، ولو سمي بالمصري لكان جديراً به لمسامتته بلاد مصر.
الرابع اليماني. وهو ما بين الغرب والجنوب، سمي بذلك لمسامتته بلاد اليمن ولذلك خففت الياء في آخره نسبة إلى اليمن. وقال ابن قتيبة: سمي بذلك لأنه بناه رجل من اليمن يقال له ابن أبي سالم، وقد يطلق عليه وعلى ركن الحجر الأسود اليمانيان، وعلى الشامي والغربي الشاميان تغليباً.
ثم بين ركن الحجر الأسود وبين الركن الشامي أربعة وعشرون ذراعاً، وبالقرب من الركن الأسود في هذا الجدار باب الكعبة على أربعة أذرع وشيء من الأرض يرقى أليه بدرج من خشب توضع عند فتح الباب؛ والملتزم بين الركن الأسود والباب الشرقي؛ وبالقرب من الركن الشامي منه مصلى آدم عليه السلام.
وهذا الجدار مقسوم بثلاث جهات: س الأولى من الركن الأسود إلى باب الكعبة. وهي في جهة القبلة لأهل البصرة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وكرمان، وسجستان، وشمال بلاد الصين وما على سمت ذلك.
الثانية من الباب إلى مصلى آدم عليه السلام. وهي جهة القبلة لأهل الكوفة، وبغداد، وحلوان، والقادسية، وهمذان، والري، ونيسأبور، ومرو، وخوارزم، وبخارا، ونسا، وفرغانة، والشاش، وخراسان، وما على سمت ذلك.
الثالثة من مصلى آدم عليه السلام إلى الركن الشامي. وهي جهة القبلة لأهل الرها، والموصل، وملطية، وشمشاط، والحيرة، وسنجار، ودياربكرٍ، وأرمينية إلى باب الأبواب، وما على سمت ذلك.
وبين الركن الشامي والركن الغربي أحدٌ وعشرون ذراعاً، وبأعلى هذا الجدار الميزاب في الوسط منه وخارجه الحجر بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم مستديراً به على سمت الركنين، يفصل بينه وبين البيت فرجتان.
وهذا الجدار مقسوم بثلاث جهات أيضاً: الأولى من الركن الشامي إلى دون الميزاب. وهي جهة القبلة لدمشق، وحماة، وسلمية، وحلب، ومنبج، وميافارقين، وما سامت ذلك.
الثانية وسط الجدار من الميزاب وما إلى جانبه. وهي جهة القبلة للمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وجانب الشام الغربي، وغزة، والرملة، وبيت المقدس، وفلسطين، وعكا، وصيدا.
الثالثة ما يلي هذه الجهة إلى الركن الغربي. وهي جهة القبلة لمصر بأسرها من أسوان إلى دمياط، والإسكندرية، وبرقة، وكذلك طرابلس الغرب، وصقلية، وسواحل الغرب، والأندلس وما على سمت ذلك. وبين الركن الغربي والركن اليماني في هذا الجدار الباب المسدود تجاه الباب المفتوح.
وهذا الجدار مقسوم بثلاث جهات أيضاً: الأولى من الركن الغربي إلى ثلث الجدار. وهي جهة القبلة لأهل الشمال من بلاد البجاوة، والنوبة، وأوسط الغرب من جنوب الواحات إلى بلاد الجريد إلى البحر المحيط وما على سمت ذلك من عيذاب، وسواكن، وجنوب أسوان، وجدة، ونحو ذلك.
الثانية من ثلث الجدار إلى دون الباب المسدود. وهي جهة القبلة لأهل الجنوب من بلاد البجاوة ودهلك وسواكن والنوبة والتكرور وما وراء ذلك وعلى سمته.
الثالثة من دون الباب المسدود إلى الركن اليماني. وهي جهة القبلة لأهل الحبشة، والزنج، والزيلع، وأكثر بلاد السودان وما والاها من البلاد أو كان على سمتها.
وبين الركن اليماني وركن الحجر الأسود عشرون ذراعاً، أنقص من مقابله بذراع، وبالقرب من ركن الحجر الأسود من هذا الجدار مصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة.
وهذا الجدار مقسوم بثلاث جهات: الأولى الركن اليماني إلى سبعة أذرع من الجدار. وهي جهة القبلة لتدمر، وحضرموت، وعدن، وصنعاء، وعمان، وصعدة، والشحر، وسبإ، وزبيد وما والاها أو كان على سمتها.
الثانية من حد الجهة المتقدمة إلى دون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة. وهي جهة القبلة لجنوب بلاد الصين، والسند، والتهائم، والبحرين، وما سامت ذلك.
الثالثة من مصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى ركن الحجر الأسود. وهي جهة القبلة لأهل واسط، وبلاد الصين، والهند، والمرجان، وكابل، والقندهار. والمعبر، وما والاها من البلاد أو كان على سمتها.
ويقابل الجدار الشرقي من البيت مما يلي ركن الحجر الأسود زمزم وسقاية العباس، ويقابله مما يلي الركن الشامي مقام إبراهيم عليه السلام. وقد تقدم الكلام عليه في عجائب الحجاز فيما مر؛ ويسمى ما بين الكعبة وزمزم والمقام الحطيم بالحاء والطاء المهملتين. قال في الروض المعطار: سمي بذلك لأنه كان من لم يجد من الأعراب ثوباً من ثياب أهل مكة يطوف فيه رمى ثيابه هناك وطاف عرياناً. وخارج المسجد الصفا والمروة اللذان يقع السعي بينهما.
الجملة الثانية في نواحيها وأعمالها:
وهي على ضربين:
الضرب الأول: الحرم ومشاعر الحج الخارجة عن مكة:
أما الحرم فهو ما يطيف بمكة مما يحرم صيده وقطع شجره وحشيشه ونحو ذلك، وقد تقدم أن الله تعالى جعل ملائكة يحرسون القبة التي أنزلها الله تعالى إلى آدم من الجنة ووضعت له مكان الكعبة وجعلت الملائكة حرساً لها كي لا يقع عليها بصر الشياطين، فكانت مواقف الملائكة هي حدود الحرم. قال ابن حوقل: وليس بمكة والحرم شجر يثمر غلا شجر البادية، أما خارج الحرم ففيه عيون وثمار.
واعلم أن مقادير جهات الحرم تتفاوت في القرب والبعد عن مكة، وعلى حدوده أعلام منصوبة في كل جهة تدل عليه. قال في الروض المعطار: قال الزبير: وأول من وضع علامات الحرم ونصب العمد عليه عدنان بن أد، خوفاً من أن تندرس معالم الحرم أو تتغير. قال: وحده من التنعيم على طريق سرفٍ إلى مر الظهران خمسة أميال، وذكر في موضع آخر أنها ستة أميال، وحده من طريق جدة عشرة أميال، ومن طريق اليمن ستة أميال، ودوره سبعمائة وثلاثة وثلاثون ميلاً.
ثم بحدود هذا الحرم أماكن مشهورة، يخرج إليها من مكة من أراد أن يهل بعمرة فيحرم منها.
أحدها التنعيم- بألف ولام لازمتين وفتح التاء المثناة فوق وسكون النون وكسر العين المهملة وسكون الياء المثناة تحت وميم في الآخر- وهو موضع على حد الحرم على طريق السالك من بطن مر وإلى مكة. قال في الروض المعطار: وسمي التنعيم لأن الجبل عن يمينه اسمه نعيم والذي عن يساره اسمه ناعمٌ والوادي الذي هو فيه اسمه نعمان؛ ومنه اعتمرت عائشة رضي الله عنها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، وهناك مسجدٌ يعرف بمسجد عائشة إلى الآن.
الثاني الحديبية- بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون الياء المثناة تحت وكسر الباء الموحدة وفتح الياء المشددة وفي آخرها تاء- ونقل في الروض المعطار عن الأصمعي تخفيف الياء الثانية. قال في تقويم البلدان: وهو موضع بعضه في الحل وبعضه في الحرم، وفيه صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت؛ وهي أبعد أطراف الحرم عن البيت؛ وهي على مسيرة يوم؛ وهي في مثل زاوية للحرم. وذكر في الروض المعطار أن الحديبية اسم لبئر في ذلك المكان، ومذهب الشافعي أن العمرة منه أفضل من التنعيم.
الثالث الجعرانة- بكسر الجيم والعين المهملة وفتح الراء المهملة المشددة بعدها ألف ونون مفتوحة وهاء في الآخر- ونقل في الروض المعطار عن الأصمعي سكون العين وتخفيف الراء. قال: وهو مكان بين مكة والطائف ولكنه إلى مكة أقرب، ومنه أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة في وجهته تلك، ومذهب الشافعي أن العمرة منه افضل من الحديبية.
وأما مشاعر الحج الخارجة عن مكة فثلاثة: أحدها منىً بكسر الميم وفتح النون وألف مقصورة- سميت بذلك لما يمنى فبها من الدماء أي يراق. قال في المشترك: وبينها وبين مكة ثلاثة أميال- وهي تشبه القرية مبنيةٌ على ضفتي الوادي. وبها مسجد الخيف- بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة تحت وفي آخرها فاء- وهو مسجد عظيم متسع الأرجاء بغير سقف.
الثاني المزدلفة- بضم الميم وسكون الزاي المعجمة وفتح الدال المهملة وكسر اللام وفتح الفاء وآخرها هاء- وهي موضع على يسرة الذاهب من منىً إلى عرفة. قال النووي: سميت بذلك من التزلف والازدلاف وهو التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفاتٍ ازدلفوا إليها أي تقربوا ومضوا إليها، وتسمى جمعاً أيضاً بفتح الجيم وسكون الميم وعين مهملة- لأنه يجمع بها بين المغرب والعشاء؛ وبها مسجد متسع. قال في الروض المعطار: طوله ثلاثة وستون ذراعاً، وعرضه خمسون ذراعاً، وارتفاع جداره عشرة أذرع.
الثالث عرفة- بفتح العين والراء المهملتين والفاء وهاء في الآخر- ويقال فيه أيضاً عرفاتٌ على الجمع، وبه جاء القرآن في قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفاتٍ} وهو موقف الحج، وسمي عرفات لتعارف آدم عليه السلام وحواء به. قال كعب الأحبار: أهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بعرفة، وإبليس بجدة، والحية بأصبهان، وأمر الله تعالى آدم بحج البيت فحج، فكان حيث وضع قدمه تتفجر الأنهار وتبنى المساجد. فلما وصل إلى عرفة، وجد بها حواء فتعارفا بها.
الضرب الثاني: قراها ومخاليفها:
واعلم أن أكثر جبال مكة وأوديتها مسكونة معمورة إلا أنه ليس بها قرية مقراة غلا حيث المياه والعيون الجارية والحدائق المحدقة، والمشهور من ذلك عشرة أماكن: الأول جدة- بضم الجيم وتشديد الدال المهملة ثم هاء- وهي فرضة مكة على ساحل بحر القلزم، وموقعها في أول الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة، وهي في الغرب عن مكة بميلة إلى الشمال. قال في الأطوال: طولها ست وستون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها إحدى وعشرون درجة وخمس وأربعون دقيقة. ووافقه على ذلك في القانون. وقال في رسم المعمور: طولها خمس وستون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها على ما تقدم. وهي مينا عظيمة محل حط وإقلاع، إليها تنتهي المراكب من مصر واليمن وغيرهما، وعنها تصدر من مكة. قال في تقويم البلدان: وهي من مكة على مرحلتين. وقال الإدريسي: بينهما أربعون ميلاً، وهي ميقات من قطع البحر من جهة عيذاب إليها.
الثاني بطن نخلٍ وضبطه معروف، ويقال فيه أيضاً وادي نخلة على التوحيد ونخلة بإسقاط لفظ وادي. قال الجواهري: وبه كانت العزى التي هي أحد طواغيت قريشٍ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها خالد بن الوليد فهدمها، وهي الآن بيد هذيلٍ، وهي قرىً مجتمعة ذات عيون وحدائق ومزدرع. أخبرني بعض أهل الحجاز أن بها نحو أربعة عشر نهراً على كل نهر قرية، وغالب فواكه مكة وقطانيها وبقولها منها، ومنها يصب الماء إلى بطن مر الآتي ذكره.
الثالث الطائف- بألف ولام لازمتين فطاء مهملة مشددة مفتوحة بعدها ألف وياء مثناة تحت مكسورة ثم فاء- وهو بلد شرقي بطن نخل المتقدم ذكرها، وبطن نخل بينه وبين مكة. قيل سميت الطائف لأنها في طوفان نوح انقطعت من الشام وحملها الماء وطافت بالأرض حتى أرست في هذا الموضع. قال في الروض المعطار: اسمها القديم وج يعني بواو مفتوحة وجيم مشددة- سميت برجل من العمالقة، ثم سكنها ثقيف فبنوا عليها حائطاً مطيفاً بها فسميت الطائف قال: وهي إحدى القريتين المذكورتين في قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرءان على رجلٍ من القريتين عظيم}. قال في تقويم البلدان: وهي من الحجاز تقريباً، وموقعها في أوائل الإقليم الثاني. وقال ابن سعيد: طولها ثمان وستون درجة وإحدى وثلاثون دقيقة، وعرضها إحدى وعشرون درجة وأربعون دقيقة، وهو بلد خصيب كثير الفواكه المختلفة مما يشابه فواكه الشام وغيرها، وهي طيبة الهواء إلا أنها شديدة البرد حتى إنه ربما جمد الماء بها لشدة بردها.
الرابع بطن مر بفتح الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة ونون بعدها ثم ميم مفتوحة وراء مهملة مشددة- وهو وادٍ من أودية الحجاز في الشمال عن مكة على مرحلة منها على طريق حجاج مصر والشام. قال في الأطوال: طولها سبع وستون درجة وعرضها إحدى وعشرون درجة وخمس وأربعون دقيقة.
قال في تقويم البلدان: وهي بقعة بها عدة عيون ومياه تجري ونخيل كثير، والنخل والمزدرع متصل من وادي نخلة إليها. وذكر غيره أن بها نحو أربعة وعشرين نهراً على كل نهر قرية، ومنها تحمل الفواكه والبقولات إلى مكة كما تحمل من نخلة والطائف، وهي بيد بني حسن أمراء مكة.
الخامس الهده- بألف ولام ثم هاء ودال مهملة مفتوحتين وهاء ساكنة في الآخر- وهو وادٍ على القرب من بطن مر، على مرحلة ونصف من مكة، به أربعة عشر نهراً على كل نهر قرية، وهي بيد بني جابر.
السادس عسفان- بضم العين وسكون السين المهملتين وفتح الفاء ثم ألف ونون- وهو وادٍ معروف على طريق حجاج مصر، على ثلاث مراحل من مكة، كان بها حدائق ومياه تنصب إليها من الهده المذكورة، وهي الآن خراب ليس بها عمارة.
السابع البرزة- بألف ولام ثم باء موحدة مفتوحة وراء مهملة ساكنة وزاي معجمة مفتوحة وهاء في الآخر- وهي وادٍ بالقرب من عسفان على مرحلتين من مكة؛ به أربعة عشر نهراً على كل نهر قرية؛ وهي الآن بيد بني سلول وبني معبدٍ بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة المفتوحة.
الثامن خليصٌ- بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وإسكان الياء المثناة تحت والصاد المهملة- وهو وادٍ على طريق حجاج مصر على أربع مراحل من مكة؛ به نحو تسعة أنهر على كل نهر قرية.
التاسع وادي كلية- بضم الكاف وفتح اللام وتشديد الياء المثناة تحت المفتوحة وهاء في الآخر- وهو وادٍ بالقرب من خليصٍ به نحو سبعة أنهر على كل نهر قرية، وكان بيد سليم، وقد خرب من مدة قريبة بعد الثمانين والسبعمائة.
العاشر مر الظهران- بفتح الميم وتشديد الراء المهملة ثم ألف ولام وظاء معجمة مفتوحة وهاء ساكنة وراء مهملة مفتوحة بعدها ألف ونون- وهو موضع بينه وبين مكة نحو ستة عشر ميلاً، وهو الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلحه مع قريش، كان به ضياع كثيرة وهو الآن خراب. قال في الروض المعطار: وبه حصن كبير كان يسكنه شكر بن الحسن بن علي بن جعفر الحسني، يعني أمير مكة الآتي ذكره في جملة أمرائها.